الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والدليل الرابع قوله جل قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} نفس آدم عليه السلام إذ خلق منه حواء زوجته ومنها تناسل البشر كله، فتنبه أيها العاقل واحذر من قول الجاهل الذي زعم أن أصل البشر القرد، وما يزعم هذا الزعم إلا ذوو النفوس الخبيثة الشاكين في القدرة الإلهية، واعلم أن الخلق كله من بعد آدم {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أي أن كل نفس لها قرار في الأرض وفي الرحم ومستودع في الأرض وفي الصلب لأن النطفة لا تبقى في صلب الأب زمنا طويلا ويبقى الجنين في بطن أمه مدة طويلة {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ 98} خصهم بالفقه لأن الدلالة هنا أدق من الدلالة في الآية التي قبلها المختومة بلفظ {يعلمون} لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريف البشر بين أحوال مختلفة أدق من الاهتداء بالنجوم المتوقف معرفتها على علم الفلك، وما جرينا عليه هنا هو ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن حبرتيما سأله عن المستقر والمستودع فأجابه بما ذكرناه، وهو مؤيد بقوله تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ} الآية 5 من سورة الحج في ج 3، وقال جماعة من المفسرين: إن الاستقرار في الأصلاب أو فوق الأرض والاستيداع في الأرحام أو في القبر وجعلوا الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فاشبهت الوديعة فكأن الرجل أودعها ما كان عنده وجعل وجه الأرض مستقرا وبطنها مستودعا لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني ولأن الصلب مقر طبيعي للنطفة ووجه الأرض مقر طبيعي للإنسان والرحم مستودع طبيعي للنطفة والقبر مستودع طبيعي للإنسان وليسا بمقر طبيعي لها والأول أولى وعليه الجمهور، قال الألوسي:وأنا أقول لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن اللّه تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم المشار إليه في الآية 872 من سورة الأعراف المارة في ج 1 وأشهدهم على أنفسهم بأخذ الميثاق منهم وكان ما كان.ردّهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء اللّه ذلك وقد أطلق ابن عباس رضي اللّه عنهما اسم الوديعة على ما كان في الصلب صريحا فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس أتزوجت؟ قلت لا وما ذاك في نفسي اليوم قال إن كان في صلبك وديعة فستخرج، وروى تفسير المستودع في الدنيا والمستقر في القبر عن الحسن وكان يقول يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وأنشد قول لبيد:
وقال سلمان بن زيد العدوي في هذا: وقال أبو مسلم الأصفهاني: المستقر الذكر والمستودع الأنثى، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 90 من سورة مريم المارة في ج 1 والآية 4 من سورة هود المارة فراجعها تعلم أن كل إنسان مستقر من جهة، مستودع من أخرى لأنه استقر فيه شيء ممن قبله فصار مستودعا عنده لمن بعده وهكذا من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الأرض من عليها بإرثها ولهذا قالوا إن لكل نسمة حظا من نشأة آدم عليه السلام على طريق التسلسل حسا وقد يكون معنى. .مطلب نبذة فيما يتعلق بالرابطة لدى السادة الصوفية تابع لما مر في الآية 57 من الإسراء في ج 1: ومن هنا يعلم أن نظر المريد الصادق إلى شيخه الكامل نظر إلى وجه الصديق رضي اللّه عنه لأن شيخه كان نظر إلى شيخه فسطع على وجهه من نوره وهكذا شيخه وشيخ شيخه وهلم جرا فيصير كل منهم آخذا ومعطيا فيكون لكل حظ منه وهو مقتبس من مشكاة النبوة المستفيض من الحصرة الإلهية فنال نصيبه منه أيضا، وعلى هذا اتخذ السادة الصوفية الرابطة فجعلوها من شروط أورادهم التي يلقنونها إلى المريد واقتبسوها من قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الآية 38 من سورة المائدة في ج 3 وسنبين فيها إن شاء ما يقتضي لهذا البحث، ومما يؤيد هذا هو قول المصلي في التحيات السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه بأنه يستلزم تشخيص حضرة الرسول عند ذلك لتصح الإشارة كما سنبينه في تفسير آية المائدة المذكورة إن شاء اللّه بصورة أوضح وقد مر في الآية 57 من سورة الإسراء ما يتعلق بهذا البحث فراجعه في ج 1.والدليل الخامس قوله عز قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} جاء على الغيبة ثم التفت جل شأنه إلى التكلم فقال: {فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ} عمم جل وعلا ثم فصل فقال: {فَأَخْرَجْنا مِنْهُ} أي النبات {خَضِرًا} شيئا غضا وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبّة {نُخْرِجُ مِنْهُ} من هذا الخضر {حَبًّا مُتَراكِبًا} بعضه على بعض كسنبلة الحنطة والأرز وعرنوس الذرة وشبهها {وَمِنَ النَّخْلِ} وأبدل منها قوله: {مِنْ طَلْعِها} لأن النخل يخرج منها الطلع ويخرج الثمر من الطلع {قِنْوانٌ} بكسر القاف غدوق جمع قنو كصنو وصنوان ويجوز فتح القاف وضمه، ولا يوجد في اللغة مثنى مفرد ويستوي فيه مثناه وجمعه إلا خمس أسماء: قنو وصنو ورئد بمعنى مثل وشقو وحش بمعنى الثعبان، ولا يفرق بين جمعه ومثناه إلا الإعراب، وقال الرازي في تفسيره إن المثنى منه بكسر النون، وبهذا يكون الفرق بين جمعه وتثنيته بالحركة {دانِيَةٌ} لمن يجتنيها ويقطفها لأنها تثقل بالثمر فتنحني وتتدلى إلى الأسفل، وتأتي قنوان بمعنى نائية بعيدة فتكون من الأضداد، واكتفى بذكر الدانية عن النائية لمعلوميتها على حد قولة تعالى: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي والبرد كما سيأتي في الآية 81 من سورة النحل، ولأن الدانية أيسر تناولا وأسهل للقطف من النائية العالية البعيدة التناول، وهذا الفرق إنما يكون في أشجار الدنيا وثمارها، أما الآخرة فالقريب والبعيد بالتناول سواء، لأنك متى نظرت إلى ثمرة وأردتها صارت بين يديك، والطلع هو الإغريضي الخارج من قلب النخلة الذي ينبثق عنه العثوق، والعثق الذي فيه التمر بمنزلة العنقود من العنب، والمتشعّب منه يسمى عرجون، ويسميه أهل (عانه) شرموخ، وهو الذي ينبت فيه التمر {وَجَنَّاتٍ} عطف على نبات {مِنْ أَعْنابٍ} متنوعة عرائش وكروم {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} أخرجناه أيضا {مُشْتَبِهًا} بعضه مع بعض.{وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ} أنواع كثيرة منها ما يشابه بعضه ويوافقه باللون والطعم والشكل والحجم والرائحة والورق والأغصان وغير ذلك، ومنه ما هو مباين في بعض الصفات موافق في الأخرى، ومنها ما هو مخالف بالكلية فسبحان من أخرج من الماء الأبيض في رأي العين أصنافا من النبات والأشجار والثمار قال تعالى: {يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} الآية 5 من سورة الرعد الآتية في ج 3، وقيل في وصف المطر:وقد أجاد في هذا الوصف، هذا، وان اللّه جل جلاله قدم الزرع لأنه غذاء وهو مقدم على الفواكه ثم النخل على الفواكه، لأن ثمره يجري مجرى الغذاء مع كونه فاكهة وفيه من المنافع ما ليس في غيره وعقبه بالعنب لأنه من أشرف الفواكه، ثم الزيتون لبركته وزيادة الحاجة إليه أكلا وأدما، ثم الرمان لأنه فاكهة ودواء، وقد ذكر اللّه تعالى في القرآن العظيم أمهات الفواكه كهذه والتين والموز وأشار إلى البقية بلفظ الفاكهة، كما أشار إلى بقية النبات بلفظ الأب فلم يخرج عن هاتين اللفظتين شيء مما ينبت بالأرض، فسبحان من أودع في كتابه كل شيء وأكده بقوله: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} الآية 38 المارة فراجعها والآية 31 من سورة عبس في ج 1، واحمد اللّه أن جعلك من أهل هذا الكتاب {انْظُرُوا} أيها الناس {إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} إدراكه ونضجه واعتبروا بها أيها الناس كيف أنبته حبة وأخرج منها ذلك راجع الآية 141 الآتية في هذا البحث {إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ} عظيمات دالات على قدرة القدير الحكيم وهي عظة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 99} بأن اللّه الذي أخرج النبات الأخضر من الحب اليابس والأشجار من النوى والفواكه الرطبة منها قادر على إحياء الموتى بعد البلى، هذا وقد ذكر اللّه خمسة براهين مجملة وعلى التفصيل فهي أكثر وكل منها حجج ظاهرات قاطعات على دلائل العالم السفلي والعلوي على ثبوت الإلهية وكمال القدرة، وذكر أن هؤلاء الكفرة فضلا عن أنهم لم يلتفتوا إليها ولم يتعظوا بها قد كفروا بها {وَجَعَلُوا} مع هذا كله {لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ} في ألوهيته وعبادته بالنصب على أنه بدل من شركاء وجمع الشركاء باعتبارهم أعوانا لإبليس، وبالرفع على الحذف، فكأنه قيل من هم الشركاء فقيل الجن وبالجر على الإضافة لشركاء، وإنما قالوا الجن من حيث لم يشاهدوهم، لأن الكفرة أصاخوا لتسويلاتهم وانصاعوا لوساوسهم، فكأنهم أطاعوهم طاعة المشاهد فعبدوا الأوثان انقيادا لهم، فصاروا كأنهم جعلوهم شركاء للّه، تعالى اللّه عن ذلك، وعلى هذا فتكون هذه الآية نازلة في كفار العرب كما روي عن الحسن بن صالح واختاره الزجاج، وقال الكلبي نزلت في الزنادقة ونقل هذا القول ابن الجوزي عن ابن السائب ونقله الإمام الرازي عن ابن عباس، وادعى أنه أحسن الوجوه المنقولة في سبب نزولها. .مطلب معتقد الزنادقة والمجوس وتحقيق رؤية اللّه تعالى: وذلك أنهم يقولون إن كل ما في الكون من خير فهو من يزدان يعني النور، وجميع ما في العالم من الشر فهو من الظلمة يعني إبليس وهذا مذهب المجوس، لأن الكتاب الذي زعم زردشت أنه نزل من السماء سماه (زاندا) والمنسوب إليه زندى، ثم عرب إلى زنديق ويجمع على زنادقة، ومنهم من يقول إن إبليس قديم، ومنهم من يقول إنه محدث، وكلهم متفقون على أنه شريك للّه في تدبير هذا العالم (تنزه عن ذلك) فما كان من خير فمن اللّه وما كان من شر فمن إبليس.هذا، وان اليزيدية الموجودين الآن في جبل سنجار على تخوم العراق يدينون بما يشابه هذا الدين ويعتقدون بالشيطان اعتقاد المجوسي بإبليس، وقال بعض المفسرين إن المراد بالجنّ هم الملائكة، لأن العرب عبدتهم وسمتهم بنات اللّه، كما مرّ في كثير من الآيات الدالة على ذلك وتسميتهم جنا مجاز لاجتنانهم أي استتارهم واختفائهم عن الأعين، وعبر بالجن عن الملائكة للحط بشأنهم بالنسبة لمقام الإلهية، ونقل هذا القول عن قتادة والسدي، والقول الأول أولى لموافقته ظاهر القرآن وهو الحقيقة وخلافها مجاز، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، ولا يوجد هنا صارف لمعناها كي يلجأ إليه في اعتبار المجاز، قال تعالى: {وَخَلَقَهُمْ} أي أنهم يقولون هذا القول والحال أن اللّه خلقهم، فكيف يجعلونهم شركاء له، تعالى عن ذلك وتعاظم {وَخَرَقُوا} اختلقوا وافتعلوا وافتروا {لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ} فاليهود تقولت بأن عزيرا ابنه والنصارى بهتت بأن عيسى ابنه، وكفار العرب زعمت بأن الملائكة بناته وكله زور محض اختلقوه كما اختلقوا الأوثان من تلقاء أنفسهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} جهلا منهم بعظمة اللّه، وإفكا مختلقا، وكانت العرب عند ما تسمع من الرجل كذبة في نواديهم تقول اخترقها واللّه، أي استعظاما لقول الزّور وتوبيخا للكاذب، راجع الآية 12 المارة من هذه السورة وذكر البنات هنا مما يؤيد أن المراد بالجن الشياطين كما جرينا عليه لا الملائكة لأنه لو كان المراد بالجن الملائكة لما أتى بذكرها ثانيا لأن الملائكة لا توصف بذكورة ولا بأنوثة واللّه أعلم ثم نزه اللّه نفسه المقدسة بنفسه المنزهة عن ذلك كله فقال: {سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ 100} جلاله بما لا يليق بجلاله كيف وهو {بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} قد أبدعهما ومن فيهما وكونهما على غير مثال سابق، وهذا هو معنى الإبداع ومن كان كذلك {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وهو المنفرد المنزه عن الأزواج كيف {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ} زوجة لأن الولد لا يكون إلا منها عادة، ولا تكون الزوجة إلا من جنس الزوج حتى يتم التوالد بينهما وهو ليس كمثله شيء، ولأن الولادة من صفات الأجسام وهو مخترعها وليس بجسم، تعالى عن ذلك، ومن لا يكون جسما لا يكون له ولد، والولد لا يكون بلا زوجة عادة وهو منزه عن اتخاذها {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ومن هذا شأنه فهو غني عن كل شيء من الصاحبة والولد والمعين وغيره، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 101} لأنه خالق كل شيء، ومن يخلق فهو أعلم بما يخلق علم اليقين، فلا يعزب عن علمه شيء، لأنه محيط بكل شيء {ذلِكُمُ} الموصوف بما تقدم هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} وحده لا تشركوا به شيئا، إذ هو المستحق للعبادة لا مخلوقه الذي بيده إعدامه وإعادته ونفعه وضره {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 102} رقيب فلا تقع حركة في ملكوته ولا سكون إلا بعلمه قال تعالى منزها ذاته الكريمة عما هو من شأن البشر {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ} من خلقه لا إدراك إحاطة ولا مطلق إدراك، كما أن القلوب تعرفه بلا إحاطة {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ} من جميع خلقه بحيث يراها ويحيط بها علما، والمراد بها النور الذي به تدرك المبصرات، فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه يرى، وهذا هو السر من الإظهار بمقام الإضمار، وقيل المراد إن كل عين لا ترى نفسها وهو كذلك ولكن هذا ليس مرادا هنا {وَهُوَ اللَّطِيفُ} العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها، الرفيق بعباده، وهو عائد إلى الجملة الأولى، لأنه يناسب كونه غير مدرك {الْخَبِيرُ 103} العالم بظواهر الأمور وخفياتها وهو عائد إلى الجملة الثانية لأنه يناسب كونه مدركا بكسر الراء على اللف والنشر المرتب، وفي هذه الآية إشارة لرؤية اللّه في الآخرة لا نفيها كما استدلت به المعتزلة، لأنه جل شأنه قد تمدح على عباده بذلك على طريق الإعجاز فلو لم يكن جائز الرؤية لما كان هذا التمدح واقعا لأن المعدوم لا يتمدح به ولا يلزم من عدم الرؤية مدح، ولو لم يكن جائز الرؤية لما سألها موسى عليه السلام إذ مثله لا يسأل عما لا يجوز، ويدل على جوازها تعليق اللّه جلت عظمته الرؤية على استقرار الجبل واستقراره جائز والمعلق على الجائز جائز، وهذا إثبات جواز الرؤية من حيث العقل ويدل عليها من الكتاب قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} الآية 23 من سورة القيامة المارة في ج 1، وقوله تعالى في حق الكفار {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} الآية 16 من سورة المطففين الآتية إذ يفهم أن المؤمنين غير محجوبين عنه، قال الإمام مالك: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعبر تبارك وتعالى عن الكفار بالحجاب، وقد أجمع المفسرون على أن كلمة وزيادة وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} الآية 26 من سورة يونس المارة هي رؤية اللّه تعالى، ومما يدل عليها من السنة كثير صحيح قدمناه في الآية 17 من سورة والنجم والآية 13 من سورة القيامة والآية 114 من سورة الأعراف المارات في ج 1، أما ما تمسك به أهل البدع والأهواء والمرجئة من أنه تعالى مستحيل الرؤيا احتجاجا بمطلع هذه الآية ولأن الإدراك فيها عبارة عن الرؤية لا عدم الإحاطة كما درجت عليه أهل السنة والجماعة إذ لا فرق عندهم بين أدركته ورأيته وهو خطأ صريح، لأن الإدراك الإحاطة بكنه الشيء وحقيقية الرؤية معاينة الشيء ومشاهدته لأنها قد تكون بغير إدراك، قال تعالى في قصة أصحاب موسى {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} قال: {كَلَّا} الآية 62 من سورة الشعراء المارة في ج 1، وكان قوم فرعون رأوا قوم موسى إلا أنهم لم يدركوهم فنفى موسى عنهم الإدراك مع إثبات الرؤية بقوله كلا، ومما لا شك فيه أن رؤية اللّه في الآخرة تكون من غير إدراك لاستحالة الإحاطة به لأنه منزه عن الحد والجهة والأبعاد الثلاثة والجهات الست، قال في بدء الأمالي:أي يا قوم احذروا خسران المعتزلة من رؤية اللّه لأنهم يقولون بعدمها فجزاهم اللّه حرمانها جزاء وفاقا، أما إذا قالوا إنه لا يرى في الدنيا فهذا مما لا جدال فيه وما وقع لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم فهو خاص به وما عموم إلا وخص منه البعض، هذا وقد أوضحنا كيفية رؤيته تعالى وثبوتها بالصحائف المشار إليها أعلاه فراجعها ترشد لما تريده وزيادة، قال تعالى يا أيها الناس {قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ} جمع بصيرة وهو نور القلب وأبصار جمع بصر وهو نور العين، وقد سمى اللّه تعالى آيات القرآن بصائر لأنها يهتدى بها إلى الرشد والسداد وهي بصائر القلوب الحية {مِنْ رَبِّكُمْ} لتبصروا بها حقائق الأشياء وتفقهوا مقاصدها فتعلموا المراد منها {فَمَنْ أَبْصَرَ} معانيها وآمن بها وصدق من جاء بها {فَلِنَفْسِهِ} أبصر وإياها نفع ولها عمل وتحذّر من كل سوء {وَمَنْ عَمِيَ} عنها وضل عن هداها وجهل أو تجاهل معناها ولم يستدل بها إلى الطريق المستقيم المؤدي إلى جنات النعيم {فَعَلَيْها} جنى وعمي وإياها ضر خسر وكان وبال عماه عليه، واللّه غني عنه {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ 104} إنما علي البلاغ والإنذار واللّه هو الرقيب عليكم، وشاهد لأعمالكم وهو الذي يجازيكم عليها فلا يخفى عليه شيء منها، وعلى هذا فالآية محكمة، ومن قال إنها منسوخة قال في تفسيرها أنا لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ الوكيل، وهو ليس بشيء، وظاهر الآية لا يحتمل هذا المعنى، وبعد أن أتم سبحانه وتعالى ما يتعلق في الإلهيّات شرح بما يدل على إثبات النبوة التي هي الأصل الثاني من الأصول الثلاثة، فابتدأ بحكاية شبه المنكرين لها فقال: {وَكَذلِكَ} مثل هذا التصريف البديع {نُصَرِّفُ} نكرر ونبين {الْآياتِ} الدالات على توحيدنا ونبوة أنبيائنا {وَلِيَقُولُوا} لك يا سيد الرسل {دَرَسْتَ} قرأت الكتب القديمة وتعلمتها من الغير بطريق المباحثة والمداومة حتى حفظتها، وجئتنا تزعم أنه من عند اللّه، وأنا أعلم أنك لم تدرس شيئا ولم تتعلمه، فدع قومك وخاصتك يقولوا لك ذلك ويصموك بالكذب وهم الكاذبون، وان ما تتلوه عليهم من وحينا وتعليمنا إياك واللام هنا لام الأمر وقيل لام كي بالنظر إلى المعطوف عليه بعد، وتهمتهم هذه لحضرة الرسول هو أنه كان عبدان من سبي الروم يسار وخيبر في مكة وكانا يأتيان محمدا لأنهما من أهل الكتاب ليسمعا منه وكانا يقرآن الكتب القديمة فظن كفار مكة أن محمدا يقرأ عليهما أو يسمع منهما وأنه يتلو ما يسمعه ويقرأه على قومه، فأنزل اللّه هذه الآية تكذيبا لهم وردا عليهم وأين هذين من كلام اللّه وهما لا يفقهانه وقد تحدى اللّه جميع البشر على الإتيان بمثله فلم تقدر ولن تقدر.
|